أربيل 15°C الثلاثاء 19 آذار 13:18

عندما يتم تحويل رواية خيال علمي الى لعبة الكترونية يتهافت عليها الجميع

في الأسابيع الماضية شهدنا إطلاق لعبة ميترو
کوردستان TV
100%

في الأسابيع الماضية شهدنا إطلاق لعبة ميترو المنفى التي سببت ضجة لا يُستهان بها في مجتمع اللاعبين حول العالم، بعد قرار فريق التطوير نقلها من متجر Steam إلى متجر Epic متجاهلةً آلاف اللاعبين المتحمسين الذين طلبوها مسبقاً، ومئات الآلاف الذين ينتظرون صدورها على أحر من الجمر، وعلى الرغم من أن هذه الحادثة المثيرة للجدل كانت محور نقاش مهم في مجتمع اللاعبين، إلا أن الكثير أزاح نظره عن الصورة الأهم؛ اللعبة بذاتها، ما الذي يجعلها بهذه الأهمية لدى الكثيرين؟ بغض النظر عن معنى انتقالها من متجر للآخر بشكل حصري.

بداية، ما عليك معرفته عن ميترو هو كونها مستوحاة من مجموعة روايات للكاتب الروسيّ ديميتري غلوخوفيسكي، تحكي سلسلة الروايات هذه مستقبلاً بعد حرب نووية دمرت العالم، وتجري أحداثها في ميترو العاصمة الروسية موسكو بشكل رئيسي، وفي المدن الروسية المدمرة الأخرى بشكل جانبيّ. اللعبة لا “تقتبس” الرواية كما هي، وإنما تستعير منها وتستوحي منها الكثير من التفاصيل وتمشي بخط أحداث مشابه من ناحية الأحداث ولكنها تختلف أيضاً في كمية المحتوى الذي تقدمه قصصياً، فالرواية أقل سرعة وأكثر تفاصيلاً وأحداثاً من اللعبة، وهذا مفهوم جداً.

من الرواية إلى اللعبة

بديهياً، هناك اختلافات جذرية بين البنية الرئيسية للرواية وتلك اللعبة. في الألعاب، للمطورين حرية أكبر في زيادة “حماس” الأحداث؛ إضافة المزيد من الأعداء أو تغيير القليل من التفاصيل بخصوص الموجود منها، زيادة عدد الأماكن التي يحتاج الشخصية الرئيسية فيها إلى استخدام “السلاح” للتقدم في خط أحداث القصة، بينما للرواية القدرة الأكبر على عرض الأحداث بتفصيل أكبر، أخذ الأمور بشكل أكثر هدوءاً وتقديم المزيد من الشخصيات والأحداث الجانبية. ولكن عدا عن هذه الاختلافات الجذرية، الشيطان يكمن في التفاصيل عندما يتم تحويل رواية إلى لعبة.

بالأخذ في عين الاعتبار أن الجزء الأول من الرواية صدر عندما كان الكاتب في التاسعة عشر من العمر، لا يمكن الاستهانة على الإطلاق بالأسلوب الأدبية والقدرة التعبيرية التي جعلتها تنتشر بهذا الشكل سواء خارج أو داخل روسيا، الكاتب الذي أتاح استخدام أفكار روايته في ألعاب مختلفة وأتاح تحميلها على الإنترنت مجاناً للقراءة. التفاصيل في الرواية التي تصف ما يمكن للعالم أن يمر خلاله بعد حرب نووية تجعل العيش على سطح الأرض مستحيلاً لأجيال، والدقة في وصف اللحظات التي تتبع الارتطامات الأولى، ومن ثم تفاصيل العيش تحت الأرض، وبعدها مزج عنصر الفانتازيا مع الخيال العلميّ بطريقة جذّابة لكل أنواع القراء، كل هذه التفاصيل التي تبني عالم اللعبة هي أسباب رئيسية في نجاح ميترو كرواية.

نقطة القوة في اللعبة هو أنها كانت قادرة تماماً على نقل هذه التجربة، بناء العالم وأجوائه الباردة من الورق إلى شاشة الحاسوب، ودمجها بشكل مثاليّ مع تصميم المراحل المميز وتجربة اللعبة الغامرة، مستغلّة قدرة الصور على اختصار مئات الكلمات لتغليف اللاعب بالأجواء بأفضل طريقة ممكنة؛ بالطريقة التي تقوم بها الألعاب بذلك. ما يجعل ميترو كلعبة ناجحة من هذه الناحية أنها لم “تقتبس” الرواية كما هي، ولم تتخلَّ عن أجواء هذه الرواية في نفس الوقت، بل نقلتها بطريقة مثالية من عالم الروايات إلى عالم الألعاب.

مجدداً، هذا وحده لا يكفي، فامتلاك مطوري اللعبة الحرية في إدخال ما يرغبون به من المعارك المثيرة إلى سير رحلة الشخصية الرئيسية، وامتلاكهم الحرية أيضاً في تصميم المراحل -مع محافظة اللعبة على أجواء الرواية ذاتها- جعل تجربة هذه اللعبة أفضل وأفضل.

رواية ميترو قابلة للقراءة بذاتها على أنها رواية مميزة من الأدب الروسيّ الحديث، وتستغل الكثير من العناصر المشهورة في هذا الأدب مثل إطالة الوصف والشخصيات الحيّة التي تجعلك تائهاً بين التفاصيل، ولكن اللعبة تنجح نجاحاً باهراً في كونها لعبة تعتنق حقيقة كونها لعبة، وتستغل العناصر الصحيحة بالشكل الصحيح، وتبني المزيد على هذا الأساس.

الجزء الأول والثاني، ومن ثم المنفى

تعرض اللعبة قصة الشخصية الرئيسية أرتيوم، شاب روسي نجى في طفولته من الارتطام الأول للأسلحة النووية مع العاصمة الروسية موسكو، يعيش أرتيوم مع مئات الناجين الآخرين تحت الأرض في ميترو الأنفاق – ومن هذا جاء اسم اللعبة، الحياة في ميترو الأنفاق ممكنة على الرغم من تسمم السطح إشعاعياً لدرجة غير قابلة للعيش لأنه مصمم لاحتمال هذا النوع من الهجمات، ويقع تحت الأرض بعمق كبير لا يسمح بالإشعاعات للوصول إليه.

في الجزئين الأول والثاني تجري أحداث اللعبة ضمن ميترو مدينة موسكو، وتعرض الأحداث السياسية والاجتماعية التي تجري بين الساكنين، أنواع الأشخاص الذين يعيشون تحت الأرض، كيف استطاعوا النجاة، ما هو النظام الاقتصادي والمعيشي الذي تكوّن بعد الحرب، وكيف يدير السكان أمورهم. كما يمكنك التوقع بأنه لا يبدو الأمر مبشّراً كون التسمم الإشعاعيّ في السنوات الأخيرة سبب الكثير من التشوهات في الأحياء على السطح، هذه التشوهات عادت بعد سنوات إلى تحت الأرض لترهب البشر وتقلق حياتهم.

لا يضطر أرتيوم في هذه اللعبة إلى محاربة الكائنات المتحولة والوحوش المرعبة فحسب، بل إلى قتال البشر الآخرين القاطنين في الميترو، فحتى الأسلحة النووية لم تكن قادرة على بناء مجتمع موحد من البشر، وكون الأسلحة هي الأمر الوحيد الذي يتوافر بشكل غير محدود، القتال لا مهرب منه. وهنا يبدأ الجانب الأخلاقي للعبة بالظهور شيئاً فشيئاً، ليبلغ ذروته في الجزء الثالث الجديد.

الكارما، الأخلاق، والنهايات السعيدة

لكل جزء من اللعبة نهايتين رئيسيتين، جيدة وسيئة، في الجزء الأول والثاني عندما تكون المفاهيم الأخلاقية أقل وضوحاً ضمن الميترو سواء للاعب أو للشخصية الرئيسية ذاتها، من الصعب الحصول على النهاية الجيدة، فالجزء الثاني يتابع أصلاً بعد النهاية السيئة للجزء الأول، بينما يتابع الجزء الثالث بعد النهاية الجيدة للجزء الثاني. النهايات بحد ذاتها ليست مهمة بهذا القدر كونها لا تؤثر بالانتقال من جزء للآخر – كون مطوري اللعبة يختارون مساراً محدداً للانتقال من الجزء للآخر ولا يعتمدون على اختيارات اللاعبين لتسيير القصة، ما يهم فعلاً هنا هو كيف يمكنك الوصول لهذه النهاية؟

في الجزء الأول والثاني، نظام الكارما أو العاقبة الأخلاقية في اللعبة غير واضح على الإطلاق، الكثير من التفاصيل المنتشرة حول مدن الميترو يمكنك استغلالها للحصول على الكارما الجيدة، مثل مساعدة المحتاجين، التبرع للمتسولين، رحمة المستسلمين في المعركة وعدم إطلاق النار عليهم. كل هذه التفاصيل تجعلك أكثر قدرة على الوصول للنهاية الجيدة. ولكن المثير للاهتمام أنها لا “تضمن” لك الوصول إليها.

في الحقيقة عندما لعبت اللعبة للمرة الأولى لم أعلم أصلاً أنها تمتلك نهايات متعددة، فنظام الكارما لا يتم التعريف به في سياق اللعبة على الإطلاق، ولا تجد أحداً يعظك أن “الأمور ستتغير للأفضل لو كنت شخصاً أفضل”… ففي الأصل لا تعريف واضح لما هو الأفضل في الحياة في الميترو.

أجل هناك بعض الخيارات الأخلاقية الواضحة كعدم قتل المستسلمين من الأعداء، ولكن ماذا عن قتل الناس بالمجمل؟ ماذا عن سرقة ممتلكاتهم؟ ماذا عن المتحولين والكائنات الأخرى التي تقتل دون رحمة من البداية؟ كل هذه الأسئلة تظهر بشكل مبهم على مسار أحداث اللعبة دون منبه مباشر على أن ما تقوم به قد يؤثر على النهاية.

ومجدداً، حتى لو قمت بالأشياء الجيدة، يبقى الأمر مجرد “احتمالية” للوصول للنهاية الجيدة. لا يوجد ضمان على أن ما تقوم به سيجعلك تصل لهذه النهاية في الأصل.

هذا السؤال الأخلاقي المهم في اللعبة -الذي لم يكن واضحاً- محض عبقرية، فهو قادر على ضغط نقاشات فلسفية كاملة دون نطق كلمة واحدة.

في الجزء الثالث بأي حال كان الأمر مختلفاً قليلاً، ما زالت الكارما أمراً لا تذكر شفوياً ضمن اللعبة، ولكنها الآن أكثر وضوحاً. ما يعرّف “الشخص الجيد” سواء للاعب أو الشخصية الرئيسية ذاتها ضمن سياق القصة أصبح أكثر وضوحاً، والوصول للنهاية السعيدة أصبح أيضاً بدوره أكثر سهولة. في هذا الجزء تصبح الأخلاق أكثر وضوحاً، لا يكفي أن تترك أعداءك المستسلمين على قيد الحياة، أحياناً عليك إنقاذ حياتهم، لا يكفي أن تترك شخصاً يموت على قيد الحياة، عليك أحياناً الاستماع لكلماته الأخيرة، أو تركه ليعيش مع شخص يحبه حتى الرمق الأخير، لا يكفي أن تصل لمبتغاك في النهاية، أحياناً عليك قطع مسافة إضافية لتجنب سفك الدماء دون حاجة.

تعريف الإنسان الجيد في اللعبة يعود لما هو عليه في العالم الذي نعيشه الآن كلما اقتربت الشخصية الرئيسية من العثور على حياة أكثر استقراراً؛ وكلما ارتقى في مستوى معيشته، كلما كان قادراً على أخذ قرارات مختلفة وخرج من سياق إجبارية العيش تحت ظروف معينة. ربط الأخلاق وتعريفها بالحرية التي يمتلكها الفرد أمر مثير للاهتمام بنظري تحديداً عندما يبدأ الأمر من القعر ونحو الأعلى، ويعطي فكرة جيدة جداً عن طريقة بنائها.

الأعداء الجيدون والأعداء السيئون

في الأجزاء الأولى يبدو مفهوم الأعداء أكثر وضوحاً بكثير من الجزء الأخير، ربما مجدداً بسبب اختلاف الحالة الأخلاقية للشخصية الرئيسية، وهذا ما يجعل الجزء الجديد برأيي مميزاً قصصياً؛ فـالأعداء هنا مختلفون عمّا اعتدت العثور عليه ضمن الميترو… كل منهم يعتقد أنه يمتلك الحجة الأخلاقية، وربما يكون لبعضهم حججاً مقنعة أيضاً.

في بعض الأحيان، قد يبدو الخيار الجيد هو بترك الأعداء على قيد الحياة… فالقرار ليس بهذا الوضوح على الإطلاق. ماذا لو كانت الحياة الصعبة بحاجة لخيارات صعبة، ومتى يرسم الخط بين الضرورة والإجرام في تلك الظروف، هناك الكثير من التفاصيل الصغيرة التي على اللاعب الانتباه لها أثناء اللعب لأخذ القرار الصحيح، عليك أيضاً أن تستمع لمن حولك وتعرف آراءهم لاتخاذ هذا الخيار.

إن مزج الأخلاقيات مع ميكانيكيات اللعبة من هذه الناحية كان أمراً جميلاً أيضاً، استماعك لما يقوله الآخرون حولك يجعلك أكثر قدرة على النجاة من المواقف الصعبة بسهولة؛ حتماً ميترو ليست إحدى تلك الألعاب التي يمكنك أن “تكتسح” كل ما في طريقك لتصل للنهاية، أو على الأقل للنهاية الجيدة إن كنت ترغب بذلك. عليك الاستماع وأخذ النصيحة قبل الدخول في المعركة، واختيار الوقت والمكان المناسبين، ومن ثم في النهاية معرفة ما يجب عليك فعله بالـ “شرير” الذي دفعك للوصول إلى ما أنت عليه؛ أحياناً القتل ليس الإجابة الصحيحة على عكس السائد في ألعاب الفيديو عادة.

في الجزء الثاني من اللعبة هناك أيضاً مواقف مشابهة تحتاج فيها للإبقاء على حياة بعض الأشرار، ومن المثير للاهتمام أنها تعطيك نقاط كارما إيجابية، لذا لم يكن المفهوم غريباً جداً في الجزء الجديد، ولكنه استُخدم بشكل أوسع حتماً هنا.

بالطبع، من الصعب جداً كتابة شخصيات “شريرة” يمكنك أخذها على محمل الجد في كثير من الأحيان، ناهيك عن شخصيات شريرة تجعلك تقع في حيرة لما يجب عليك القيام به.

تأثير الفراشة

إحدى الإضافات اللطيفة في الجزء الثالث كانت تتعلق بتعديل بسيط على نظام الكارما في اللعبة، مجدداً نظام الكارما في الأجزاء السابقة كان يرتكز على حساب مستمر طوال اللعبة، ويتم التحقق منه في النهاية، بينما في الجزء الثاني كان نظام الكارما مفصّلاً بشكل أفضل، فكل من المناطق الثلاثة الرئيسية في اللعبة تمتلك معضلة أخلاقية يجب حلها، هذه المعضلة ستنتهي بحدث يؤثر على نهاية اللعبة بشكل أو بآخر. توزيع الكارما على مناطق محددة في اللعبة وجعل تأثيرها ظاهراً مباشرةً في نهايات تلك الأجزاء من القصة كانت أداة جيدة لتوزيع “الذروات” العاطفية في اللعبة، وبهذا جذب انتباه اللاعبين أكثر لأهمية التصرفات التي يقومون بها.

يعطي هذا فرصة أفضل للاعبين كي يصلوا للنهاية الجيدة في اللعبة، كونها تتطلب فقط تخطي اثنين من ثلاث اختبارات أخلاقية، بدلاً من إبقاء الكياسة على مدى اللعبة كاملة ومشاهدة التأثير الضخم في النهاية فقط، أعتقد أن خطوة الانتقال إلى هذا النظام في ميكانيكية اللعبة كانت موفقة جداً وساهمت في إظهار أهمية تأثير الأفعال البسيطة على سير القصة بشكل أفضل.

نهاية

ميترو من الألعاب القليلة التي امتلكت تأثيراً آسراً عليّ أثناء لعبها، كشخص يهتم بشكل كبير بالأسلوب السرديّ وفي نفس الوقت لا يتغاضى عن المشاكل في ميكانيكيات اللعبة، كانت ميترو التجربة المثالية في الوقت المثالي، ومهما كانت المشاكل التي حصلت بسببها في الشهرين الماضيين ضمن مجتمع اللاعبين العالميّ، تبقى واحدة من أفضل العناوين التي صدرت في هذا العام، على الرغم من أننا لا نزال في بدايته.

 

راميار فارس ...kurdistan t v

موضوع للكاتب هادي احمد / موقع اراجيتك ktv

الأدب

التعليقات (0)

لا يوجد إلى الآن أي تعليقات

اكتب تعلیقاً

هل ترغب بتلقی الإشعارات ؟
احصل على آخر الأخبار والمستجدات